بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الـسَّـلَامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبـَرَكَـاتُـهُ
الحَمْدُ للهِ الحَمِيدِ المَجِيدِ؛ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَمُعَافَاتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَمُجَازَاتِهِ،
يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ إِلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛
هَدَى قُلُوبَ أُنَاسٍ فَشَرَوُا الآخِرَةِ بِالدُّنْيَا، وَضَلَّ عَنِ هِدَايَتِهِ أَقْوَامٌ فَخَلَدُوا إِلَى الفَانِيَةِ وَضَيَّعُوا البَاقِيَةَ؛
[مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا] {الكهف:17}،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَعَا إِلَى الهُدَى فَاتَّبَعَهُ ثُلَّةٌ مِنَ السَّابِقِينَ فَدَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،
وَانْخَلَعُوا مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَعَادَوا عَشَائِرَهُمْ وَقَبَائِلَهُمْ؛ فَسَخَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى نُصْرَةً لِنَبِيِّهِ، وَاخْتَارَهُمْ حَمَلَةً لِدِينِهِ،
صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَعَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا دِينَكُمْ، وَتَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ،
وَتَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ،
[يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] {الشعراء:88-89}.
الشَّيْخُ الطَّاهِرُ لِعَبِيدِيِ رَحمَهُ الله
توطئة:
يمثل العلماء في كيان الأمة المنارة الهادية، والشموس المضيئة، التي تبدد ظلام الجهل وشبح الأمية،
وتعمق في قلب المجتمع المسلم قيم الحق والعدل والخير، وتثمر في النهاية للأمة الأمن والاستقرار،
من هذا المنطلق نقدم للقارئ الكريم حياة كلها جهاد وجد وحيوية لأحد أعلام جنوبنا الكبير الشيخ العلامة الطاهر العبيدي رحمه الله.
مولده ونشأته:
هو الشيخ الطاهر بن العبيدي بن علي بن بلقاسم بن عمارة، ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه،
وفاطمة الزهراء بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، ولد سنة 1304هـ الموافق لـ 1887م بمدينة وادي سوف بجنوب الجزائر
من أسرة فقيرة، إذ كان والده في العديد يشتغل حدادًا، إلا أن ذلك لم يمنعه من تنشئة
ابنه في رحاب العلم والأخلاق رغم شغف العيش الذي كان يعيشه.
تعليمه:
تلقى الشيخ تعليمه على الطريقة التقليدية في عصره، فحفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره،
ثم تلقى بعض العلوم الشرعية على يد شيوخ من المنطقة؛ منهم عبد الرحمن العمودي ومحمد العربي بن موسى
الذي بدأت تظهر على يديه نجابته، وتفتحت مواهبه واستعداداته لتلقي المزيد من العلم.
رحلته في طلب العلم:
ولما بلغ الشيخ الثامنة عشر من عمره رحل إلى تونس لطلب العلم بجامع الزيتونة الذي كان حينها قبلة لطلاب العلم،
وفي رحابه تتلمذ على يد الأساتذة الأجلاء كالشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ خليفة بن عروس، والشيخ محمد النجار،
والشيخ صالح الهواري، والشيخ ابن حمود، والشيخ أحمد بن مراد، والشيخ أحمد البنزرتي، كما اطلع هناك على أمهات
الكتب والمصادر في العلوم الشرعية والأدبية، ولكن شاءت إرادة الله أن يعود الشيخ إلى موطنه قبل استكمال دراسته
بسبب ظروف عائلته المادية القاسية، إلا أن عصاميته وجده واجتهاده جعلوا منه عالما فقيها وأصوليا حجة،
ومتصوفا عارفا، ولغويا محنكا، وواعظا متمرسا، وأستاذًا ناجحا.
عمله التربوي والتعليمي:
لما أحس الشيخ محمد العربي بن موسى بدنو أجله اختار من بين تلامذته الشيخ الطاهر لعبيدي ليخلفه في الإمامة
والتدريس والذي شرع فيها عام 1902 بالجامع الكبير بمدينة توقرت، وكان تدريسه قائما على الأسس التالية:
تعليم مسجدي ذو طابع ديني يماثل التعليم في الحواضر العلمية كالزيتونة والأزهر آنذاك، يقوم به في المسجد الكبير
بعد صلاة الظهر ويتمثل في تحفيظ متون الفقه وشرحها على مذهب الإمام مالك.
دروس في التفسير تقام بعد صلاة المغرب يحضرها عدد كبير من أبناء المنطقة من مختلف الأعمار حتى العنصر النسوي،
وكان الشيخ يميل في تفسيره إلى الأسلوب القصصي مقتصرًا كل يوم على آية واحدة متفحصا متمعنا متعمقا في
أبعادها العقائدية والتشريعية واللغوية والتاريخية، وقد ختم تفسيره للقرآن الكريم بعد 32 سنة، فكان يومها حفلا عظيما
وشرفا كبيرًا لهذا العلامة الفذ، وكان ذلك يوم 10 محرم 1353 هـ الموافق لـ 17 أفريل 1935م.
علاقة العبيدي بابن باديس:
ربطت العبيدي بابن باديس صداقة منذ أيام طلبهما العلم بالزيتونة، وفي سنة 1919 م (1337 هـ)
التقى الشيخان بتوقرت وتعاهدا على خدمة الإسلام والعربية، وبعد عودة ابن باديس
إلى قسنطينة بعث إليه الشيخ الطاهر بقصيدة يمدحه فيها قائلا في مطلعها:
بروحي جليلا حل (تقرتنا) النضرا
يفوت شذا خلاقه المسك والعطرا.
ثم يشيد بعلمه قائلا:
وما كان في الحسبان رؤية مثله
بوقت هوت فيه القراءة والأقرا
رأيت له علما وعقلا مطهرا
وحسن اعتقاد للهدي يشرح الصدرا
هنيئا لكم أهل قسنطينة الأولى
لهم غيرة في همة تزحم الشعرا
فدونكم عبد الحميد ودونكم
مآدب آداب لكم تنعش الفكرا
وكان ابن باديس مسافرًا خارج قسنطينة، ولما عاد وجد الرسالة في انتظاره فردّ عليها كتابيا معتذرًا لصاحبها عن تأخرها،
ومما جاء في رسالة ابن باديس لصديقه: “بسم الله الرحمن الرحيم، وصل الله على محمد، وعلى آله وسلم،
إلى حضرة علم العلم والفضل ومعلم الكرم والنبل التقي الطاهر الأثواب، السوي البارع الآداب، مستحق الشكر
منا بما له علينا من سابق الأيدي، العلامة سيدي أبي الطيب العبيدي أدامه الله بدرًا طالعا في هالة درسه… إلخ.
العبيدي يحث على الجهاد
لما انطلقت ثورة التحرير قال فيها الشيخ قصيدة حث فيها أتباع جيش وجبهة التحرير على الصبر والجهاد، وإعداد العدة،
والمحافظة على الدين، وإقامة الصلاة، لأنه يريد أن يتصف الجهاد بالأوامر الإلهية والأحكام الشرعية،
وأولها الطهارة والإخلاص والصدق.
ومما قاله نقتطف هذه الأبيات:
نخبة تسكن الجبال وترضى
شظف العيش يا لها إعجابه
فلتعش جبهة أزالت وحوشًا
فاتكات في أرضنا خرابه
وليعش جيشها منيعا حفيظًا
ناصر الدين معليا أعتابه
والجهاد الجهاد دوموا عليه
إنه العزة وهو عين الإصابة
فإذا تركتموه ذللتم
في حديث رواه جمع صحابه
وانشروا العلم والقراءة إن الجهل ألقى على الشباب ضبابه
وأقيموا الصلاة في الجيش والكشاف
لا تهملوا لتارك عقابه
يسجن التاركون حتى يصلوا
أو يموتوا بالسيف قد رأوا عقابه
من مآثر الشيخ:
- أما ما عرف عليه في فتاويه التدقيق والتحري في مختلف المسائل الفقهية، فلا يصدر حكما أو فتوى إلا بعد مراجعة وبحث،
بل يطلب من السائل أو المستفتي أن يعود إليه مرة أخرى، ويتأكد ويراجع، فإذا ما استعجله السائل نهره قائلا له
إن العبيدي ليس مالكًا)؟
- كان حسن المعاملة لتلاميذه إذ كان لهم قلبا حميما، وأبا رحيما، وصديقا حميما، وأخا كريما، يزور مرضاهم،
ويتبع جنائزهم وموتاهم، فيشاركهم أفراحهم وأقراحهم كأنه واحد منهم.
- كان رجل صلح وإصلاح إذ استنجد به (باشاغا) مدينة وادي سوف سنة 1938 لإزالة خلاف وقع بين الطرقيين وممثلي
جمعية العلماء، فمكث مدة سنة مدرسا في الجامع العتيق بالوادي، ثم عاد عام 1939م
إلى تقرت بعد أن أزال الخلاف بين الطرقيين والجمعية.
- كانت للشيخ جولات في غير الوادي وتقرت، فامتد نشاطه التربوي والعلمي إلى خارجها، إذ سجلت له عدة محاضرات
في الجلفة وزاوية الهامل ببوسعادة وفي الشرق الجزائري، كما جرت بينه وبين علمائها عدة مناظرات، فشهد له الجميع بالعلم والصلاح.
- ترك الشيخ إرثا علميا زاخرا، وكنزا غاليا، وصدقة جارية، تشهد له أمام الله يوم القيامة، يبلغ عدد المؤلفات والرسائل التي
تركها قرابة العشرين مؤلفا، أغلبها مخطوطا والتي طبع منها هي
النصيحة العزوزية، ونصيحة الشباب، رسالة الستر)،
وتدور موضوعات مؤلفاته عموما حول العلوم الشرعية والفقهية واللغوية والصوفية، وبعض القضايا الفلسفية والاجتماعية.
وفاته:
بعد الاستقلال ضعفت صحته، فأصيب سنة 1966 بمرض عضال ألزمه الفراش ثمانية عشر شهرا،
توفي على إثرها يوم 28 جانفي 1968 وكان يوما مشهودًا خرجت لجنازته تقرت عن بكرة أبيها مودعة أباها الشيخ
الذي كان نبراسا يضيء بالعلم النافع ويشع بالعلم الصالح في تلك الليالي الاستعمارية الحالكة، والتي سعى زبانيتها
إلى تغريب الشعب ومسخ هويته، وتحريف عقيدته، فتصدى الشيخ لتلك الأعمال، فقام ينشر العقيدة الصحيحة والآداب الفاضلة،
وحافظ على اللغة بلسان عربي مبين، مصدره كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم،
رحم الله الشيخ الطاهر رحمة واسعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عضو المجلس الوطني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.