[]مما ذكر من الخليفة المعتضد و حزمه فى الأمور و حيله ، أنه أطلق من بيت المال لبع الرسوم فى الجند عشر بدر ( كيس به عشرة آلاف درهم ) ، فحملت الى منزل صاحب عطاء الجيش ليصرفها فيهم . فنقب منزله فى تلك الليلة ، و أخذت العشر بدر .
فلما اصبح نظر الى النقب و لم ير المال ، و امر باحضار صاحب الحرس ، و قال له : ان هذا المال للسلطان و الجند ، و متى لم تأت به أو بالذى نقبه و أخذ المال ، ألزمك أمير المؤمنين غرمه .
فجدّ فى طلبه ، و أحضر التوّابين و الشرط ( و التوّبون هم شيوخ اللصوص الذين كبروا و تابوا ، فاذا جرت حاذثة علموا من عملها ، فدلّوا عليه ، و ربما يتقاسمون و اللصوص ما سرقوه ) . فتقدم اليهم فى الطلب ، و تهددهم و أوعدهم . فتفرق القوم فى الدروب و الأسواق و المواخير ( دور الدعارة ) و دور القمار ، فما لبثوا أن أحضروا رجلاً نحيفاً ضعيف الجسم ، رث الكسوة ، فقالوا : يا سيدى ، هذا صاحب الفعلة ، و غريب من غير هذا البلد .
فأقبل عليه صاحب الحرس ، فقال له : ويلك ! من كان معك ؟ ما ظنك تقدر على عشر بدر وحدك فى ليلة .
فما زاده على الأنكار شيئاً . فأقبل يترفّق به ، و يعده أن يرزقه و يعظم جائزته ، و يتوعده بكل مكروه ، و هو على انكاره . فلما غاظه ذلك و يئس من اقراره ، أخذ فى عقوبته ، و ضربه بالسوط على ظهره و بطنه و قفاه و رأسه و أسفل رجليه و كعبه ، حتى لم يكن للضرب فيه موضع . و بلغ به ذلك الى حالة لا يعقل فيها و لا ينطق ، و لم يقر بشىء .
و بلغ ذلك المعتضد ، فاحضر صاحب الجيش ، و قال له : ويلك ! تأخذ لصاً قد سرق من بيت المال عشر بدر ، فتبلغ به الموت و التلف حتى يهلك الرجل و يضيع المال ؟! فلين حيل الرجال ؟ أحضرونى الرجل .
فأتى به ، و سأله فأنكر ، فقال له : ويلك ، ان مت لم ينفعك ، و ان برثت من هذا الضرب و نجوت لم أدعك تصل اليه . فلك الأمان و الضمان على ما تصلح به حالك .
فأبى الا الأنكار . فقال المعتضد : على باهل الطب .
فأُحضروا . فقال : خذوا هذا الرجل اليكم ، فعالجوه بأرفق العلاج ، وواظبوا عليه بالمراهم و الغذاء ، و اجتهدوا أن تبرئوه فى أسرع وقت .
فأخذوه اليهم ، حتى صحّ و قوى جسمه ، و ظهر لونه ، و رجعت اليه نفسه .
ثم أمر المعتضد باحضاره ، فلما حضر بين يديه ، سأله عن حاله ، فدعا و شكر ، و قال : أنا بخير ما أبقى الله أمير المؤمنين .
ثم سأله عن المال ، فعاد الى الأنكار . فقال له : لست تخلو من أن تكون أخذته وحدك كله ، أو وصل اليك بعضه .
فان كنت أخذته كله فانك تنفقه فى أكل و شرب و لهو ، و لا أظنك تفنيه قبل موتك ، و ان مت فعليك وزره . و ان كنت أخذت بعضه سامحنا لك به ، فأقر لنا به و أقر على أصحابك ، فأنى أقتلك ان لم تقر ، و لاينفعك بقاء المال بعدك ، و لايبالى أصحابك بقتلك . و متى أقررت دفعت اليك عشرة آلاف درهم ، و رسمتك من التوابين ، و اجريت لك فى كل شهر عشرة دنانير تكفيك لأكلك و شربك و كسوتك و طيبك ، و تنجو من القتل ، و تتخلص من الأثم .
فأبى الا الانكار . فاستحلفه فحلف . و لأظهر له مصحفاً و استحلفه فحلف عليه . فقال المعتضد : انى ساظهر على المال ، فان أنا ظهرت عليه بعد هذا اليمين قتلتك .
فابى الا الأنكار . فقال له : فضع يدك على رأسى و احلف بحياتى .
فوضع يده على رأسه و حلف بحياته أنه ما أخذه ، و أنه نظلوم متهم ، و أن التوابين قد تبرّءوا به . فقال له المعتضد : فان كنت قد كذبت قتلتك و أنا برىء من دمك ؟
قال : نعم .
فأمر الخليفة بأحضار ثلاثين أسود ، و أمرهم أن يتناوبوا فى ملازمته ، فأتت عليه أيام و هو قاعد لا يتكىء و لا يستند و لا يستلقى و لا يضطجع ، و كلما خفق ( نعس ) خفقة لُكم فى فكه و ضُرب على رأسه . حتى اذا ضعف و قارب التلف ، امر المعتضد باحضاره . فأعاد عليه ما كان خاطبه به ، فحلف أنه ما أخذ المال ، و لا يعرف من أخذه فقال المعتضد لمن حضر : قلبى يشهد أنه برىء ، و أن ما يقوله حق .
ثم أمر باحضار مائدة عليها طعام ، و أحضر بارد الشراب ، و أمره بالجلوس . فأقبل يأكل و يشرب ، و يحثه على الأكل و يُلقم و يعا الشراب عليه و يكرر ، حتى لم يبق للأكل و الشرب موضع . ثم أمر ببخور و طيب ، فبُخر و طُيب ، و أُتى له بحشية ريش فوُطىء له و مهد .فلما استلقى و استراح و غفا ، أمر المعتضد بازعاجه و سرعة ايقاظه . فحُمل من موضعه حتى أُقعد بيت يديه و فى عينيه الوسن .
فقال له : حدثنى كيف صنعت ؟ و كيف نقبت ؟ و من أين خرجت ؟ و الى أين ذهبت بالمال ؟ و من كان معك ؟
قال : ما كنت الا وحدى ، و خرجت من النقب الذى دخلت منه ، و كان مقابل الدار حمّام له كوم شوك يوقد به ، فأخذت المال ، و رفعت ذلك الشوك فوضعته تحته ، و غطيته ، و هو هنالك .
فأمر بردّه الى فراشه ، فردّوه و أضجعوه عليه . ثم أمر بأحضار المال ، فأحضر عن أخره . و احضر صاحب الحرس و الوزير و الجلساء ، و قد غطى المال بالبساط ناحية من المجلس . ثم أمر بأيقاظ اللص و قد اكتفى من النوم و ذهب عنه الوسن ، فقال له بحضرة الجميع مثل قوله الأول ، فجحد و انكر .
فأمر بكشف البساط ، و قال له : أليس هذا المال ؟ ألم تفعل كذا و كذا ؟ يصف له ما حدّثه به . فاسقط فى يد اللص . ثم أمر فقبض على يديه و رجليه و أوثق ، ثم أمر بمنفاخ فنفخ فى دُبره ، و أتى بقطن فحشى فى أذنيه و فمه و خيشومه ( بطن الأنف ) ، و أقبل ينفخ و قد خلّى عن يديه و رجليه من الوثاق ، و امسك بالأيدى و قد صار كأعظم ما يكون من الزقاق المنفوخة ، و قد ورم سائر أعضائه و عظم جسمه ، و عيناه قد امتلأتا و برزتا . فلما كاد أن ينشق ، أمر بعض الأطباء فضربه فى عرقين فوق الحاجبين ، فاقبلت الريح تخرج منهما مع الدم و لها صوت و صفير ، الى أن خمد و مات ]